“سوف نجد طريقة مناسبة يا بروفيسور.. دائما ما نفعل”
فيلم إنترستيللر Interstellar
للأسف الشديد، كان كوكب ميلر أقرب لـ جارجَنتو Gargantau- الثقب الأسود الهائل الذي يدور حوله الكوكب[1]
– مما اعتقد أفراد المهمة، وبالتالي كان النزول على سطحه يعني مزيداً من التباطؤ الزمني بالنسبة لهم. فكل ساعة يقضونها على الكوكب، ستعادل سبع سنوات من سنواتنا الأرضية. أضف إلى ذلك الوقت الذي سيقضونه في مدار ميلر حيث سيكون هناك تمددا زمنيا بتأثير الجاذبية أيضا.
اقترح حينها “كوبر” أنه بدلا من أن تدور السفينة الأمّ إندورانس Endurance في مدار كوكب ميلر، فإنها ستأخذ مدارا أوسع حول جارجنتو نفسه بعيد عن منطقة الانزياح الزمني، وبالتالي يقل الوقت المستَهلك نوعا ما، لينزل بعضهم على سطح الكوكب. محاولين أخذ د. ميلر من الكوكب بأسرع ما يمكن.
أينشتاين والجاذبية
كانت نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين (1879-1955) يمكن تطبيقها في عالم بدون جاذبية، فلا يوجد دور للجاذبية أو الكتلة في تلك النظرية. كانت نظرية الجاذبية الشهيرة لنيوتن موجودة، ولكن اتضح أنها تعد حالة خاصة من نظرية أعم. لذا نستطيع القول أنّ نظرية النسبية الخاصة ونظرية نيوتن للجاذبية هما حالتان خاصتان عن نظرية أشمل لابد من اكتشافها يوما ما(فالنسبية الخاصة تصلح للحالات التي لا توجد بها جاذبية، ونظرية نيوتن تصلح للسرعات الصغيرة بالنسبة لسرعة الضوء).[2]
بدأ أينشتاين العمل على نظريته الجديدة منذ عام 1907 عندما كان عاملا في مكتب براءات الاختراع، حتى وصل للنظرية ونشرها كاملة في عام 1916.
افترض أينشتاين في نظريته أن المكان والزمان متحدان في نسيج كوني أطلق عليه الزمكان (Space-time) هذا النسيج الكوني قابل للانحناء بواسطة الأجسام الثقيلة، فالشمس مثلا تحني الزمكان حولها، وهذا الانحناء تقع فيه الكواكب التي تدور حولها، وهذا هو سبب الجاذبية برأيه. فهي ليست كما قال نيوتن قوة بين جسمين. بل هي مجال تكونه الأجسام ذات الكتل الكبيرة (Massive objects) حولها، وتقع فيه الأجسام الأصغر، حتى الضوء نفسه ينحني عندما يمر شعاعه بتلك المناطق المنحنية. وبكلمات أخرى، الجاذبية هي ما يحدد شكل الفضاء.
قال أينشتاين نفسه بعد ذلك أن اكتشافه لتلك النظرية يعد “أعظم اكتشاف في حياته“، وقال العالم الإنجليزي بول ديراك Paul Dirac عن ذات النظرية أنّها “ربما تعد أعظم اكتشاف على الإطلاق“.[3]
إدنجتون وشهرزاد
في قصة “صباح الليلة الأولى بعد الألف”، يقول مؤلفها الفرنسي أندريه ميكيل على لسان شهرزاد : “كل ما يفهمه العقل الأصيل يجب أن يكون شائعا. فالمعرفة تنكر وجودها إن لم تُتقاسم“.[4]
والمعرفة التي لابد أن يتقاسمها البشر جميعهم، هي ما دفعت بعالم إنجليزي أن يحاول إثبات صحة كلام آخر ألماني –وهو أينشتاين- بعد حرب عالمية طاحنة تخاصم فيها إنجلترا وألمانيا، وقتّلوا مئات الآلاف من بعضهم البعض. في قصة يُضرب بها المثل في تخطي العلم الحدود الوهمية بين البلاد.
في عام 1919، وبعد أن تحدى العالم البريطاني الشاب آرثر إدنجتونArthur Eddington الجمعية الملكية، أثبت صحة جزء مهم من نظرية النسبية العامة، وهو الخاص بانحناء الضوء حول الأجسام الكبيرة.
العالم الإنجليزي “آرثر إدنجتون” (1882- 1944)
قبل أينشتاين، كان العلماء بالفعل يعتقدون أنّ الجاذبية تجذب أشعة الضوء فتجعلها تنحني إذا مرت بجوارها، هذا بالطبع إن لم تكن كبيرة كفاية لتجذب الأشعة إليها فلا تستطيع الخروج، كما شرحنا سابقا.
لكن نظرية أينشتاين تنبأت بقيم جديدة للزوايا التي تصنعها الأشعة المنحنية مع المسار الاصلي لشعاع الضوء. وهنا كان دور إدنجتون، حيث سافر إلى جنوب أفريقيا عام 1919، حيث كان هناك كسوفا للشمس، ليحدد مواقع النجوم التي ستظهر له ويقارنها بالمواقع الأصلية لتلك النجوم، ويرى ما مدى الاختلاف بين الموقعين الذي سببته جاذبية الشمس. واختار إدنجتون وقت الكسوف حتى لا يكون لضوء الشمس أي تأثير على قياساته. وبالفعل كانت الانحرافات التي قاسها متطابقة مع ما قاله أينشتاين بنسبة خطأ ضئيلة جدا.
صورة توضح الاختلاف بين مواقع النجوم في السماء بسبب جاذبية الشمس التي تحني الضوء كما تنبأ أينشتاين.
الثقوب السوداء تطل برأسها
أول من توقع وجود الثقوب السوداء هو العالم الجيولوجي الإنجليزي جون ميشيل JohnMichell ، تحديدا في عام 1785، وقدم – حينها- توقعاته للجمعية الملكية في لندن. وكانت فكرته تعتمد على “سرعة الهروب من الجاذبية” Escape Velocity.
بالنسبة للأرض، فإنه يلزم لأي شئ (صاروخ مثلا) لكي يتحرر من جاذبيتها أن يتحرك بسرعة 11 كيلومترا في الثانية الواحدة تقريبا. بينما على القمر يكفي ما يزيد قليلا عن 2 كيلومترا لكل ثانية. أما الشمس فيلزمك 620 كيلومترا في الثانية لكي تهرب من سعيرها!
تساءل ميشيل، ما هي كتلة الجسم الذي لن يستطيع الضوء نفسه أن يهرب منها. فالضوء عنده (كما قال نيوتن قبله) كان عبارة عن جسيمات، وبالتالي يتأثر بالجاذبية. ووجد في النهاية أن نجما بحجم الشمس 500 مرة ولكن بنفس كثافة الشمس، لن يستطيع الضوء أن يهرب منه. وبالتالي لن يخرج أي ضوء منه، لأنه سيجذب شعاع الضوء للداخل. وبالتبعية سيبدو هذا النجم اسود![5]
في الحقيقة، الثقوب السوداء بهذا الشكل لا تعدو أكثر من كونها نجوم كبيرة فقط، وهو ما يخالف المعروف الآن، إذ أنّ لتلك الكيانات خصائص أخرى غريبة سنعرفها بعد لحظات.
في عام 1916، واعتمادا على نظرية النسبية العامة لأينشتاين، أوضح العالم الألماني “كارل شوارتز” أنه لو تركزت كتلة نجم كبير في مكان صغير جدا، فإن ذلك النجم سيصنع مجالا جذبويا، ومكونا حوله في نسيج الزمكان منطقة تسمى “أفق الحدث” Event horizon، لا يستطيع أن يعبرها أي شيء للخارج، حتى الضوء!
عندما ينفذ الوقود النووي من النجم فإنه ينهار على نفسه بفعل الجاذبية ويتضاءل حجمه شيئا فشيئا، حتى يصل إلى درجة الثقب الأسود التي أوضحها شوارتز. [6]
لم يستسغ الفيزيائيون فكرة وجود الثقوب السوداء ساعتها بشكل كامل، إذ كانت تعد “تكوينات متطرفة من المادة” الموجودة في الكون بالنسبة لهم. حتى أينشتاين نفسه كتب ورقة علمية في عام 1939، حاول فيها إثبات عدم إمكان تكون الثقوب السوداء من الأساس. لكن اليوم نحن نعرف –عن طريق التلسكوبات- أنّ هناك ملايين من تلك الثقوب في الفضاء.[7]
وفي عام 1974 أثبت ستيفن هوكنج أن الثقوب السوداء ليست “سوداء” بالكامل، بل يصدر منها إشعاعات تسمى إشعاعات هوكنج.
عودة إلى إنترستيلر
علمنا أن الكتل الكبيرة تحني الزمكان حولها، ما يسبب الجاذبية، وهذا يعني أيضا أن الوقت في تلك الانحناءات يتباطأ مرورة بالنسبة لمناطق لاتوجد بها تلك الانحناءات. ويمكننا القول أن الساعات القريبة من الأرض مثلا سيمر بها الوقت بطيئا بالنسبة للساعات الأعلى من سطح الأرض. وهذا بسبب وجود جاذبية أعلى عندما نكون قريبين من سطح الأرض.
بالفعل قام بعض العلماء بتجربة في جامعة هارفارد عام 1959، محاولين قياس الفارق في تدفق الوقت بين قاعدة وقمة برج طوله 22 متر، فوجدوا فعلا أن هناك فارقا بمقدار 1.6 جزء من تريليون جزء من الثانية بين القمة والقاعدة. وبعد ذلك حُسنت الدقة والأدوات المستخدمة وأعيدت التجارب مرة أخرى لتثبت مرة بعد مرة تأثير الجاذبية على الوقت.[8]
جارجنتو، صديقنا الجديد، تبلغ كتلته مقدار كتلة الشمس 100 مليون مرة على الأقل بحسب كيب ثورن (العالِم الذي شارك بالجانب العلمي من الفيلم، وهو المنتج المنفذ)، ويبلغ نصف قطره 150 مليون كيلومتر (تساوي تقريبا المسافة من الأرض للشمس). فكان له ذلك التأثير الرهيب على الوقت. فعاد كوبر ليجد ابنته مورف قد شاخت واستبد بها الزمن، بينما هو لا يزال شابا لم يصل للأربعين بعد!
لا يجب أن ننسى أن إنترستيلر فيلم (ورواية لاحقا) خيال علمي، يخضع كغيره لعوامل أخرى غير علمية لغرض الإثارة والحبكة الدرامية، لذلك لابد أن نجد بعض “السقطات العلمية”، كإمكانية الحياة داخل الثقب الاسود كما فعل “كوبر”، إذ أن الجاذبية داخل الثقب الأسود مريعة! وتتغير بسرعة، إضافة لعدم إمكانية التواصل مع الخارج كذلك.[9]
وختاما، ربما كان الفيلم به كثير من التفاصيل العلمية، لكن لابد لكل من شاهده أن تساءل.. هل ستكون نجاة البشرية في المستقبل البعيد في خروجها من الأرض؟ هل سنهجر وطننا الأزرق، لنتجه لكوكب آخر نكمل عليه مسيرة الحضارة البشرية؟ مجرد التفكير أنه في يوم ما سينظر أحفاد أحفادنا للسماء، محاولين تبين شكل كوكب الأرض الذي لا يعرفون عنه شيئا، مجرد التفكير بذلك يصيبني بالدوار!
المصادر
[1] جارجنتو في فيلم انترستيلر، هو ثقب أسود فائق الكتلة يدور حوله كوكبا “ميلر” و”مان”، ونجم نيوتروني غير معروف. بالنسبة للاسم، يعتقد أنه أُخذ من رواية نشرت في القرن السادس عشر اسمها “حياة جارجنتو وبنتاجرويل” وتتحدث عن عملاقين هما جارجنتو وابنه بنتاجرويل، ومؤلف الرواية هو “فرانكويس رابيلايس” Francois Rabelais.
Interstellar wiki, Gargantau, http://interstellarfilm.wikia.com/wiki/gargantau
[2] Amir D. Aczel, God’s Equation, Dell Publishing, New York, 1999, p27,28
[3] Lillian E. Forman, Einstein Physicist & Genius, 2009, ABDO Publishing, p60
[4] أندريه ميكيل، صباح الليلة الأولى بعد الألف، ترجمة: أحمد عثمان، كتاب العربي 96، ص81
[5] Jim Alkhalili, Black Holes, worm holes and time machine, Institute of Physics Publishing- Bristol and Philadelphia, pg83, 84, 85
[6] يمكنك معرفة الخطوات التفصيلية لتحوّل النجم إلى ثقب أسود بالرجوع إلى الكتاب التالي، صفحات 85 و 86: Jim Alkhalili, Black Holes, worm holes and time machine
[7] Michio Kaku, Physics of the Impossible, 2008, Doubleday publishing, New York, p.xiii
[8] Kip Thorne, The Science of interstellar, W.W Norton & Company, p47
[9] Jhonathan O’Callaghan, Five tings interstellar got wrong, and the points it got right, dailymail.com/sciencetech/article-2828836, 10-11-2014
فيلم إنترستيللر Interstellar
للأسف الشديد، كان كوكب ميلر أقرب لـ جارجَنتو Gargantau- الثقب الأسود الهائل الذي يدور حوله الكوكب[1]
– مما اعتقد أفراد المهمة، وبالتالي كان النزول على سطحه يعني مزيداً من التباطؤ الزمني بالنسبة لهم. فكل ساعة يقضونها على الكوكب، ستعادل سبع سنوات من سنواتنا الأرضية. أضف إلى ذلك الوقت الذي سيقضونه في مدار ميلر حيث سيكون هناك تمددا زمنيا بتأثير الجاذبية أيضا.
اقترح حينها “كوبر” أنه بدلا من أن تدور السفينة الأمّ إندورانس Endurance في مدار كوكب ميلر، فإنها ستأخذ مدارا أوسع حول جارجنتو نفسه بعيد عن منطقة الانزياح الزمني، وبالتالي يقل الوقت المستَهلك نوعا ما، لينزل بعضهم على سطح الكوكب. محاولين أخذ د. ميلر من الكوكب بأسرع ما يمكن.
أينشتاين والجاذبية
كانت نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين (1879-1955) يمكن تطبيقها في عالم بدون جاذبية، فلا يوجد دور للجاذبية أو الكتلة في تلك النظرية. كانت نظرية الجاذبية الشهيرة لنيوتن موجودة، ولكن اتضح أنها تعد حالة خاصة من نظرية أعم. لذا نستطيع القول أنّ نظرية النسبية الخاصة ونظرية نيوتن للجاذبية هما حالتان خاصتان عن نظرية أشمل لابد من اكتشافها يوما ما(فالنسبية الخاصة تصلح للحالات التي لا توجد بها جاذبية، ونظرية نيوتن تصلح للسرعات الصغيرة بالنسبة لسرعة الضوء).[2]
بدأ أينشتاين العمل على نظريته الجديدة منذ عام 1907 عندما كان عاملا في مكتب براءات الاختراع، حتى وصل للنظرية ونشرها كاملة في عام 1916.
افترض أينشتاين في نظريته أن المكان والزمان متحدان في نسيج كوني أطلق عليه الزمكان (Space-time) هذا النسيج الكوني قابل للانحناء بواسطة الأجسام الثقيلة، فالشمس مثلا تحني الزمكان حولها، وهذا الانحناء تقع فيه الكواكب التي تدور حولها، وهذا هو سبب الجاذبية برأيه. فهي ليست كما قال نيوتن قوة بين جسمين. بل هي مجال تكونه الأجسام ذات الكتل الكبيرة (Massive objects) حولها، وتقع فيه الأجسام الأصغر، حتى الضوء نفسه ينحني عندما يمر شعاعه بتلك المناطق المنحنية. وبكلمات أخرى، الجاذبية هي ما يحدد شكل الفضاء.
قال أينشتاين نفسه بعد ذلك أن اكتشافه لتلك النظرية يعد “أعظم اكتشاف في حياته“، وقال العالم الإنجليزي بول ديراك Paul Dirac عن ذات النظرية أنّها “ربما تعد أعظم اكتشاف على الإطلاق“.[3]
إدنجتون وشهرزاد
في قصة “صباح الليلة الأولى بعد الألف”، يقول مؤلفها الفرنسي أندريه ميكيل على لسان شهرزاد : “كل ما يفهمه العقل الأصيل يجب أن يكون شائعا. فالمعرفة تنكر وجودها إن لم تُتقاسم“.[4]
والمعرفة التي لابد أن يتقاسمها البشر جميعهم، هي ما دفعت بعالم إنجليزي أن يحاول إثبات صحة كلام آخر ألماني –وهو أينشتاين- بعد حرب عالمية طاحنة تخاصم فيها إنجلترا وألمانيا، وقتّلوا مئات الآلاف من بعضهم البعض. في قصة يُضرب بها المثل في تخطي العلم الحدود الوهمية بين البلاد.
في عام 1919، وبعد أن تحدى العالم البريطاني الشاب آرثر إدنجتونArthur Eddington الجمعية الملكية، أثبت صحة جزء مهم من نظرية النسبية العامة، وهو الخاص بانحناء الضوء حول الأجسام الكبيرة.
العالم الإنجليزي “آرثر إدنجتون” (1882- 1944)
قبل أينشتاين، كان العلماء بالفعل يعتقدون أنّ الجاذبية تجذب أشعة الضوء فتجعلها تنحني إذا مرت بجوارها، هذا بالطبع إن لم تكن كبيرة كفاية لتجذب الأشعة إليها فلا تستطيع الخروج، كما شرحنا سابقا.
لكن نظرية أينشتاين تنبأت بقيم جديدة للزوايا التي تصنعها الأشعة المنحنية مع المسار الاصلي لشعاع الضوء. وهنا كان دور إدنجتون، حيث سافر إلى جنوب أفريقيا عام 1919، حيث كان هناك كسوفا للشمس، ليحدد مواقع النجوم التي ستظهر له ويقارنها بالمواقع الأصلية لتلك النجوم، ويرى ما مدى الاختلاف بين الموقعين الذي سببته جاذبية الشمس. واختار إدنجتون وقت الكسوف حتى لا يكون لضوء الشمس أي تأثير على قياساته. وبالفعل كانت الانحرافات التي قاسها متطابقة مع ما قاله أينشتاين بنسبة خطأ ضئيلة جدا.
صورة توضح الاختلاف بين مواقع النجوم في السماء بسبب جاذبية الشمس التي تحني الضوء كما تنبأ أينشتاين.
الثقوب السوداء تطل برأسها
أول من توقع وجود الثقوب السوداء هو العالم الجيولوجي الإنجليزي جون ميشيل JohnMichell ، تحديدا في عام 1785، وقدم – حينها- توقعاته للجمعية الملكية في لندن. وكانت فكرته تعتمد على “سرعة الهروب من الجاذبية” Escape Velocity.
بالنسبة للأرض، فإنه يلزم لأي شئ (صاروخ مثلا) لكي يتحرر من جاذبيتها أن يتحرك بسرعة 11 كيلومترا في الثانية الواحدة تقريبا. بينما على القمر يكفي ما يزيد قليلا عن 2 كيلومترا لكل ثانية. أما الشمس فيلزمك 620 كيلومترا في الثانية لكي تهرب من سعيرها!
تساءل ميشيل، ما هي كتلة الجسم الذي لن يستطيع الضوء نفسه أن يهرب منها. فالضوء عنده (كما قال نيوتن قبله) كان عبارة عن جسيمات، وبالتالي يتأثر بالجاذبية. ووجد في النهاية أن نجما بحجم الشمس 500 مرة ولكن بنفس كثافة الشمس، لن يستطيع الضوء أن يهرب منه. وبالتالي لن يخرج أي ضوء منه، لأنه سيجذب شعاع الضوء للداخل. وبالتبعية سيبدو هذا النجم اسود![5]
في الحقيقة، الثقوب السوداء بهذا الشكل لا تعدو أكثر من كونها نجوم كبيرة فقط، وهو ما يخالف المعروف الآن، إذ أنّ لتلك الكيانات خصائص أخرى غريبة سنعرفها بعد لحظات.
في عام 1916، واعتمادا على نظرية النسبية العامة لأينشتاين، أوضح العالم الألماني “كارل شوارتز” أنه لو تركزت كتلة نجم كبير في مكان صغير جدا، فإن ذلك النجم سيصنع مجالا جذبويا، ومكونا حوله في نسيج الزمكان منطقة تسمى “أفق الحدث” Event horizon، لا يستطيع أن يعبرها أي شيء للخارج، حتى الضوء!
عندما ينفذ الوقود النووي من النجم فإنه ينهار على نفسه بفعل الجاذبية ويتضاءل حجمه شيئا فشيئا، حتى يصل إلى درجة الثقب الأسود التي أوضحها شوارتز. [6]
لم يستسغ الفيزيائيون فكرة وجود الثقوب السوداء ساعتها بشكل كامل، إذ كانت تعد “تكوينات متطرفة من المادة” الموجودة في الكون بالنسبة لهم. حتى أينشتاين نفسه كتب ورقة علمية في عام 1939، حاول فيها إثبات عدم إمكان تكون الثقوب السوداء من الأساس. لكن اليوم نحن نعرف –عن طريق التلسكوبات- أنّ هناك ملايين من تلك الثقوب في الفضاء.[7]
وفي عام 1974 أثبت ستيفن هوكنج أن الثقوب السوداء ليست “سوداء” بالكامل، بل يصدر منها إشعاعات تسمى إشعاعات هوكنج.
عودة إلى إنترستيلر
علمنا أن الكتل الكبيرة تحني الزمكان حولها، ما يسبب الجاذبية، وهذا يعني أيضا أن الوقت في تلك الانحناءات يتباطأ مرورة بالنسبة لمناطق لاتوجد بها تلك الانحناءات. ويمكننا القول أن الساعات القريبة من الأرض مثلا سيمر بها الوقت بطيئا بالنسبة للساعات الأعلى من سطح الأرض. وهذا بسبب وجود جاذبية أعلى عندما نكون قريبين من سطح الأرض.
بالفعل قام بعض العلماء بتجربة في جامعة هارفارد عام 1959، محاولين قياس الفارق في تدفق الوقت بين قاعدة وقمة برج طوله 22 متر، فوجدوا فعلا أن هناك فارقا بمقدار 1.6 جزء من تريليون جزء من الثانية بين القمة والقاعدة. وبعد ذلك حُسنت الدقة والأدوات المستخدمة وأعيدت التجارب مرة أخرى لتثبت مرة بعد مرة تأثير الجاذبية على الوقت.[8]
جارجنتو، صديقنا الجديد، تبلغ كتلته مقدار كتلة الشمس 100 مليون مرة على الأقل بحسب كيب ثورن (العالِم الذي شارك بالجانب العلمي من الفيلم، وهو المنتج المنفذ)، ويبلغ نصف قطره 150 مليون كيلومتر (تساوي تقريبا المسافة من الأرض للشمس). فكان له ذلك التأثير الرهيب على الوقت. فعاد كوبر ليجد ابنته مورف قد شاخت واستبد بها الزمن، بينما هو لا يزال شابا لم يصل للأربعين بعد!
لا يجب أن ننسى أن إنترستيلر فيلم (ورواية لاحقا) خيال علمي، يخضع كغيره لعوامل أخرى غير علمية لغرض الإثارة والحبكة الدرامية، لذلك لابد أن نجد بعض “السقطات العلمية”، كإمكانية الحياة داخل الثقب الاسود كما فعل “كوبر”، إذ أن الجاذبية داخل الثقب الأسود مريعة! وتتغير بسرعة، إضافة لعدم إمكانية التواصل مع الخارج كذلك.[9]
وختاما، ربما كان الفيلم به كثير من التفاصيل العلمية، لكن لابد لكل من شاهده أن تساءل.. هل ستكون نجاة البشرية في المستقبل البعيد في خروجها من الأرض؟ هل سنهجر وطننا الأزرق، لنتجه لكوكب آخر نكمل عليه مسيرة الحضارة البشرية؟ مجرد التفكير أنه في يوم ما سينظر أحفاد أحفادنا للسماء، محاولين تبين شكل كوكب الأرض الذي لا يعرفون عنه شيئا، مجرد التفكير بذلك يصيبني بالدوار!
المصادر
[1] جارجنتو في فيلم انترستيلر، هو ثقب أسود فائق الكتلة يدور حوله كوكبا “ميلر” و”مان”، ونجم نيوتروني غير معروف. بالنسبة للاسم، يعتقد أنه أُخذ من رواية نشرت في القرن السادس عشر اسمها “حياة جارجنتو وبنتاجرويل” وتتحدث عن عملاقين هما جارجنتو وابنه بنتاجرويل، ومؤلف الرواية هو “فرانكويس رابيلايس” Francois Rabelais.
Interstellar wiki, Gargantau, http://interstellarfilm.wikia.com/wiki/gargantau
[2] Amir D. Aczel, God’s Equation, Dell Publishing, New York, 1999, p27,28
[3] Lillian E. Forman, Einstein Physicist & Genius, 2009, ABDO Publishing, p60
[4] أندريه ميكيل، صباح الليلة الأولى بعد الألف، ترجمة: أحمد عثمان، كتاب العربي 96، ص81
[5] Jim Alkhalili, Black Holes, worm holes and time machine, Institute of Physics Publishing- Bristol and Philadelphia, pg83, 84, 85
[6] يمكنك معرفة الخطوات التفصيلية لتحوّل النجم إلى ثقب أسود بالرجوع إلى الكتاب التالي، صفحات 85 و 86: Jim Alkhalili, Black Holes, worm holes and time machine
[7] Michio Kaku, Physics of the Impossible, 2008, Doubleday publishing, New York, p.xiii
[8] Kip Thorne, The Science of interstellar, W.W Norton & Company, p47
[9] Jhonathan O’Callaghan, Five tings interstellar got wrong, and the points it got right, dailymail.com/sciencetech/article-2828836, 10-11-2014
0 التعليقات:
إرسال تعليق