جِدّو كريشنامورتي (بالتيلوغوية: జిడ్డు కృష్ణ మూర్తి, Jiddu Krishnamurti - أو జే కృష్ణ మూర్తి, J. Krishnamurti) هو كاتب ومتحدث عن القضايا الفلسفية والروحية؛ هندي من ولاية أندرا برديش. تضمنت مادته الثورة النفسية، وطبيعة العقل، والتأمل، والعلاقات البشرية، وإحداث التغيير الإيجابي في المجتمع. الحفاظ على هذا المجتمع هو في نهاية المطاف نتاج التفاعل بين الأفراد، وقال ان هذا التغيير الجذري في المجتمع لا يمكن أن يظهر إلا من خلال تغيير جذري ولكن بحرية مطلقة في داخل الفرد. وأكد باستمرار على الحاجة إلى ثورة في نفسية كل إنسان، وأكد أن مثل هذه الثورة لا يمكن أن تتأتى من قبل أي كيان خارجي، سواء كان ذلك الديني، والسياسي، أو الاجتماعي. ويُعتبر المترجم اليوناني ديمتري أفييرينوس من أهم المترجمين الذين نقلوا أعمال كريشنامورتي إلى العربية.
.............................
هذا إذن وقت الإسهاب
ولد جِدو كريشنامورتي في قرية صغيرة في جنوب الهند. وبُعد انتقاله إلى مدينة مدراس مع أسرته، تبنتْه السيدة آني بيزانت، رئيسة الجمعية الثيوصوفية التي احتفتْ به في شبابه بوصفه مسيحًا جديدًا. وفي العام 1929، تخلى كريشنامورتي عن الدور الذي أنيط به، مفككًا التنظيمات "الروحية" التي طوقتْه، منطلقًا في مهمة، وقف لها حياته كلها، لـ"تحرير الإنسان تحريرًا مطلقًا غير مشروط" من القيود والإشراطات كافة، بما فيها القيود التي يفرضها الدينُ المنظَّم والاتكال على المرجعيات الدينية والروحية المختلفة، فجاب العالم إبان 65 سنة، متكلمًا في أوروبا والهند وأستراليا والأمريكتين، حتى قبيل وفاته بأسابيع قليلة.
لم يعتنق كريشنامورتي أي مذهب، كما لم يبشر بأية عقيدة، بل صاغ تعليمه الفريد وحده، منصرفًا انصرافًا كليًّا إلى رصدٍ دائم لآليات الذهن البشري في كتابات ومحاضرات ومحاورات جُمِعَتْ في أكثر من 40 كتابًا وتُرجِمَتْ إلى حوالى 50 لغة. والقضايا الدائمة التي تصدَّى لها، والتي تتناول أصل المشكلات البشرية وطبيعة الذهن وكيفية التحرر النفسي وتحقيق الإشراق الروحي، بوَّأتْه مكانة خاصة بوصفه واحدًا من أكثر متكلِّمي القرن العشرين وكتَّابه استفزازًا للذهن المستكين إلى يقينياته وتحديًا لمزاعم جحافل المرشدين الجُدُد من أصحاب "الدكاكين الروحية" الذين يوزعون "التقنيات" و"الوصفات" و"الوعود" التي تزيد بلبلة العالم على بلبلة.
كان كريشنامورتي يريد تحرير البشر نفسيًّا لكي يكونوا على تناغُم مع أنفسهم وأشباههم ومع الطبيعة. وقد علَّم أن الإنسان هو صانع البيئة التي يعيش فيها، وأن إيقاف كابوس العنف المستمر منذ آلاف السنين لا يتم إلا بتحول جذري في النفس البشرية. وقد اكتفى بإعطاء إشارات حول "فن" القيام بهذا التحول؛ إذ ليس ثمة طريق ولا منهاج لبلوغه: على كل أحد أن يقوم بالعمل بمفرده، دون اللجوء إلى أي معلم أو مرجعية؛ فالحياة بأسرها تصير المعلَّم.
لهذه الأسباب مجتمعة، كانت التربية واحدة من اهتماماته الرئيسية. فإذا استطاع الطفل أن يتعلم رؤية إشراطاته الإثنية والدينية والمذهبية والاجتماعية إلخ، التي تقوده حتمًا إلى النزاع، إذ ذاك يستطيع أن يستوعي أنه العالم وأن العالم فيه؛ ولعله يستطيع بذلك أن يصير كائنًا بشريًّا يتحلى بفطنة رفيعة تلهمه السلوك السليم آنيًّا. فالذهن المثقل بالأحكام المسبقة مستعصٍ على الحرية.
***
ليس كريشنامورتي "فيلسوفًا" بالمعنى المألوف للكلمة. فغالبية الفلاسفة يقومون، انطلاقًا من مسلَّمات يأخذون بها وتشكِّل نواة فلسفاتهم، ببناء صرح نظري يبحثون له عن تطبيقات في النشاطات البشرية المختلفة وفي العالم. أما "فكر" كريشنامورتي فهو يقوم على أسُس نفسانية يمكن التحقق منها "تجريبيًّا" – شريطة أن يتحلَّى المرء بالجرأة والشجاعة الكافيتين للإقدام على مثل هذه المغامرة – من شأنها أن تحث فيه، من دون أدنى عنف أو لجوء إلى سلطة فكرية خارجية، تحولاً غير متوقَّع يشمل سائر جوانب حياته.
وإن التعمق في دراسة تعاليم كريشنامورتي ليكشف عن آفاق جديدة توطِّد دعائم فكر حرٍّ، نقيٍّ، متجدد، يتخطى كل الحدود والمقولات التي تفرضها علينا غالبيةُ المناهج والفلسفات والمذاهب التي لا تتسبَّب، في الأعم الأغلب، إلا في التجزئة والصراع والفوضى – الأمر الذي يمنح هذا الفكر أفقًا عالميًّا شاملاً بالغ الأهمية، وخاصة في عصرنا.
إن معضلة الإنسان الأساسية تعود، في نظر كريشنامورتي، إلى "سيرورة الأنا" the I-process: تلك السيرورة المتمثلة في الرغبة المنغرسة في الأنا إلى الاستزادة من الوقود الذي يكفل لها الاستمرار في التقوقع على نفسها؛ ذلك التقوقع الذي لا يتجلى في الأنانية الفردية والشواهد الاجتماعية والتاريخية على عنجهية الإنسان وقسوته وحسب، بل وفي المفاهيم الأخلاقية الاجتماعية السائدة، المشبعة بالإحساس بالتفوق وبالرضا الذاتي وبالغرور المقنَّع.
كريشنامورتي من القلة النادرة من الفلاسفة التي عملت على إقامة صلة وثيقة مباشرة بين التعقيد الحاذق واللامنطقي للنفس البشرية، بكل إحباطاتها، من جهة، وبين شعلة المحبة المتقدة في الكيان الإنساني، من جهة ثانية. فهو، بإزالته المسافة الوهمية الفاصلة بين أنا الإنسان وبين ما هو حقيقي فيه، أي بين الإنسان كعَرَض والإنسان كجوهر، يحرِّر النفس البشرية من فصام لازَمَها طويلاً. كل ما ليس حقيقيًّا وآنيًّا ومباشرًا خاضعٌ للزمن، أي للصيرورة، أي لإشراطات الذاكرات النفسانية، ولا يقع، بالتالي، في حقل "الإبداع" الخالص، وهو "انسلاب ذاتي" auto-alienation، بمعنى قريب من مفهوم إريش فروم للانسلاب. إن كريشنامورتي يضع إصبعه مباشرة على موضع العلة التي لا يستطيع أي تحليل نفسي "اختزالي" أو أية تجربة "صوفية" عابرة أن تشفيها – ألا وهي اعتيادنا القاتل محاكمة نفسنا ومقارنتها بالآخرين وإدانتها، ووضع سلَّم قيم من ابتداعنا نحن ومن صُنْع إسقاطاتنا الخافيَّة (= اللاواعية)، بدلاً من أن نلزم الصمت، ونبقى فاعلين في العالم، حاضرين فيه، نحيا حياة هي فينا، بأن نكون، لا كما نرغب في أن نكون، بل كما نحن فعلاً.
لذا يقترح علينا كريشنامورتي – نحن الذين نلتقي بالمجهول في كلِّ لحظة، مزوَّدين بالذهن (وهو أفكارنا وذاكراتنا ومعلوماتنا المتراكمة) درعًا يدرأ عنَّا "خطر" ما نجهل – تجربة جريئة، قوامها تأمل نقدي عميق في النفس، مصحوب بشكٍّ وانتباه يقظ يتملص من قبضة الذاكرات والتلقائية الآلية المترسبة فينا عبر الماضي كلِّه، وتتفتح فيه زهرةُ كل لحظة جديدة بذبول زهرة اللحظة التي سبقتْها، وتتوِّجه يقظةٌ نهائية شافية على مستويات النفس البشرية كافة.
تلكم ثورة كلِّية جذرية، "نفنى فيها عن نفسنا"، بالتعبير الصوفي، وعن ذاكراتنا الماضية، فتتفتح فينا "بصيرة"، وحدها قادرة على الإفصاح لنا عن الواقع، واقع "ما هو موجود" what is – الآن. أما مقاربة الواقع بالذهن وحده – وهو الماضي كلُّه – فهي "أشبه بضخِّ الدم في جثة ميت"، بحسب تعبير أحد المفكرين.
لا يركن كريشنامورتي إلى كل فعل آلي وإلى كل تكرار وإلى كل رتابة واعتياد في حياتنا النفسية. ففي الفهم أيضًا، كما في المادة، نزوع طبيعي إلى الاعتياد وإلى التكرار وإلى العطالة؛ وهو نزوع ما لم نتداركه في الوقت المناسب ونفهم سياقه بالكامل، لكفيل بأن يستفحل ويتحول إلى هاجس يستحوذ على حياتنا النفسية برمَّتها. من هنا يميِّز كريشنامورتي تمييزًا دقيقًا بين "ذاكرات الوقائع" (وهي الذاكرات الطبيعية التي لا غنى لنا عنها) وبين "الذاكرات النفسانية" التي تنجم عن مُواحدة identification "أنا" الفرد مع ذاكرات الوقائع. فهذه المُواحدة الذاتية التي تقوم بها "الأنا" الخاضعة لشهوة الديمومة، خوفًا من التلاشي والاضمحلال، هي المسؤولة عن استنزاف حياتنا الداخلية وعن إحباط كافة مساعينا إلى المعرفة الحق للنفس وللعالم.
"الأنا"، إذن، عبارة عن مجرد حزمة من أنماط السلوك أو العادات التي يضعها كريشنامورتي في نطاق "المعلوم". و"العادات"، هاهنا، لا يعني بها كريشنامورتي الحركاتِ اليوميةَ البسيطةَ التي يتعذر من دونها استمرارُ الفنون والصنائع والعلاقات بين البشر – لا بل تتعذر الحياة الإنسانية نفسها، – بل يعني بها تلك المسالك "الاعتيادية" التي من شأنها دومًا إدامة ردود الفعل الدفاعية التي تحرضها أحداثٌ رضِّية مؤلمة في الماضي. إنها الجروح النفسية أو الندوب المتشكلة في النقاط التي تأذَّت فيها الأنا، بقايا الأفعال الناقصة التي – لسبب أو لآخر – لم نعشها في كلِّيتها، وبالتالي، لم نفهمها، الأحداث الرضِّية الذي لم يتم استيعاؤها أو هضمها.
العالم في حركة دائبة، في صيرورة أبدية، والأنا، بكلِّ ثوابتها ومكابداتها الناجمة عن رغبتها في ديمومة سكونية، إنما هي مقاوِمة لهذه الصيرورة. الأنا، بنظر كريشنامورتي، هي الماضي المحفوظ في ذاكرة ليست مجرد ذاكرة توثيقية أو وظيفية، بل ذاكرة – كونها ما تزال مشحونة بالانفعال الموجِع الناجم عن الفعل الرضِّي – موجِّهة لسلوكنا كلِّه، وتنحو إلى فَرْضِ مجرى محدَّد على حياتنا كلِّها وعلى مصيرنا برمَّته. هي ذاكرة، على الرغم من تجدد الحياة الدائم، ترمي بنا، مع صباح كلِّ يوم جديد، في أزقة مساعينا القديمة، وتفرض علينا غَصْبًا عَقْد ميثاق متجدد، لا مع الحياة، بل مع طموحات ماضينا العقيمة، التي تستطيع بذلك، من جراء "الالتزام" بهذا الميثاق غير المَوْعيِّ، أن تتظاهر بالحياة وتتلقى دفعًا جديدًا.
إن استمرارية الأنا ما هي إلا استمرارية هذه الذاكرة، وديمومة الأنا إنما هي ديمومة الماضي – ماضٍ ليس إلا جملة تشنجات وأوجاع وقروح ومقاومة متعنتة لكلِّ خروج عليه أو حياد عنه، لكلِّ صيرورة عفوية، أصيلة، مبدعة.
بذلك فإن صراع الأنا مع الحاضر يُختزَل إلى صراع الماضي مع الحاضر، كما يقول رونيه فويريه. وهذا الصراع يخلق المفهوم النفسي للماضي. أي أن مقاومة الصيرورة التي تكوَّنت لدى وقوع الأحداث الماضية تخلق فينا معنى الماضي. ومن جهة أخرى، فإن عدم إشباع الرغبات هو الذي يخلق فينا مفهومَ المستقبل – لا المستقبل الحقيقي الذي سوف يعاش فعلاً وحتمًا، بل مستقبل مفتعَل، ليس في حقيقته إلا ماضيًا، لأنه – عمليًّا – مكوَّن، في حاضر منقوص، من ذكريات هذا الماضي. ليس ثمة جديد حقيقي في هذا المستقبل المزيف لأنه ليس غير صورة معكوسة للماضي في مرآة الأنا. أما المستقبل الحقيقي، الفعلي، فلا يمكن اختباره إلا كحاضر حي.
عندما تتلاشى مركزية الأنا، مع جحافل التناقضات التي تولِّدها في النفس، يعي المرء أن ما كان يتوسَّم فيه ذاته، ما كان يراه من نفسه ويحسب أنه هو، لم يكن في حقيقة الأمر إلا صورة ممسوخة من ذاته الحق وقد أضفى عليها صفة الإطلاق – حزمة من الأفكار والانفعالات والرضوض التي تختزل روعة الحياة، بتجلياتها اللانهائية، إلى قانون يتوهم أنه سيجد بتطبيقه السعادة التي ينشد، وتحُول، بالتالي، دون تفتحه الحقيقي والكشف عن إمكاناته الأصيلة.
***
ثورية كريشنامورتي تتمثل في مقاربته الجديدة فعلاً للعمل على الذات وفي اكتشافه شيئًا ثوريًّا، خارقًا، لم ينتبه إلى أهميته، في غمرة اختبارهم للعالم الداخلي، غالبيةُ المعلِّمين والفلاسفة الروحيين: إذا كان العمل الداخلي يبدأ من "نقطة انطلاق" في حقل الوعي، فإن هذا المنطلَق، بوصفه، منطقيًّا، لا يخرج أصلاً عن نطاق الأنا (المعلوم)، لا بدَّ أن يحتجز كلَّ ما ينتج عنه ضمن هذا النطاق نفسه. وما يحدث في هذه الحالة، من حيث لا نعي، هو نوع من إعادة ترتيب محتويات الوعي "الأنوي" في تشكيلة جديدة نتوهم أنها خبرة جديدة، في حين أنها إلباس للقديم ثوبًا جديدًا.
من هنا استحالة أن تختبر الأنا شيئًا غير ذاتها ومعطياتها، وضرورة عدم الانطلاق في سيرورة معرفة النفس من "مركز"، بل إعمال نوع من الانتباه الدائم الذي لا يوجد فيه "أحد" ينتبه، ويكون فيه الراصد والمرصود (أو المراقِب والمراقَب) مندمجين في سيرورة الرصد أو الانتباه – مثل المحبة تمامًا: في لحظة الشعور العميق بالمحبة الحقيقية لا يوجد محب ومحبوب، بل محبة فقط! ("الصديق آخرٌ هو أنت"، كما يقول أبو حيان التوحيدي.) إن ما يميز الخبرة الروحية الأصيلة، في الواقع، هو العجز الكامل عن مقارنتها بأيٍّ من الخبرات النفسية السابقة (الذاكرة، المعلوم)، مما يفسح المجال شاسعًا لاكتشاف آنيٍّ للمجهول في كلِّ لحظة.
بهذه الخبرة يستوعي الإنسان، في لمحة كلمح البرق، بُطلان الأنا، وتتلاشى الأنا القديمة وقد صَعَقَها انكشافُ زيفها. وتبلغ طاقة الإنسان، التي كانت تُستهلَك في تغذية تناقضات ينسل بعضها بعضًا، درجةً مذهلة من التركيز، ويبحر الكيان الداخلي في محيط لا ساحل له، في استغراق مطمئن في الحياة الكلِّية يجعله غير قابل للاستغلال من أحد ويطفئ فيه الرغبة في استغلال غيره. والفكر والعاطفة، اللذان كانت الأنا تحرص على الفصل بينهما، يندمجان في فهم عميق منعتق من إسار الزمن.
يستتب عندئذٍ تكاملٌ تام في قوى الكيان، يتجلى في محبة هي غاية ذاتها، هي أبدية ذاتها. هذه المحبة – وهي، بحسب كريشنامورتي، فعل "التأمل" بعينه – تطلق مواهبنا الحقيقية من عقالها، لأنها لا تختار ولا تقيد؛ إنها أشبه ما تكون بشمس روحية تسطع في مجدها، تشرق بأشعتها الدافئة على الفراشة والذبابة معًا، وتشمل بضيائها المجرم والقديس – زهرة تنشر أريجها على السابلة جميعًا، بصرف النظر عن هويتهم.
***
ربما وَقَعَ الباحثُ المنقِّب على نقاط تشابُه بين "فكر" كريشنامورتي وبين تعاليم حكماء وفلاسفة هنود عديدين، أمثال شنكراتشاريا، غوتاما البوذا، رامانا مهارشي، نسارغاداتا مهَراج، في بحث هؤلاء عن المبدأ المطلق أو الأسمى أو في تعبيرهم عنه، وكذلك بينه وبين الطاوية (لاوتسه، خوانغ تسه) وبوذية زِنْ. كما قد يعثر الباحث على نقاط التقاء عديدة بين كريشنامورتي وبين مفكرين غربيين كُثُر يصعب حصرها في هذا المقام، من أمثال كارل غ. يونغ، مؤسِّس علم النفس التحليلي، والأديب هرمن هِسِّه (ولاسيما في كتابه سيدهرتا)، وغيرهما. وقد يجد تقاطعًا بين الانتباه الذي تكلَّم عليه كريشنامورتي وبين "الحدس" لدى برغسون. إن كريشنامورتي يلتقي حقًّا مع برغسون في إصراره على ما هو خلاق وفي تنديده بكلِّ ما هو آلي غير تلقائي ولا ينسجم مع "التطور المبدع".
وكريشنامورتي، حين يحيل "الأنا" إلى القضاء، وحين يرينا ببساطة كلَّ التناقضات التي تعيث فيها فسادًا ويجعلنا نعترف بفراغها من كل معنى أصيل، وحين يشدِّد على الحرية والمسؤولية الفرديتين، فإنه يقترب من ج.ب. سارتر، على الرغم من جميع الاختلافات العميقة بين الرجلين في القصد والمنهج. غير أنه يتخطى في براعة، عبر التحول الداخلي الحاسم، المعضلة التي عجز مؤلِّف الوجود والعدم عن تخطيها. بيد أن فكر كريشنامورتي ليس تخصصيًّا، وهو لا يندرج ضمن أيِّ منظور تاريخي. إنه يعارض ذوبان الفرد في الجماعة؛ ومع ذلك فهو يقر، مع كارل ماركس، بأن الأنا هي ثمرة الوسط الاجتماعي. لكن الأنا عنده ليست جوهر الإنسان – وهاهنا أساس الفرق بين المفكرَيْن. يخاطب تعليم كريشنامورتي العالم بأسره، لأنه، على كونه من أصل هندي، ظل يشدد على أنه – نفسيًّا – لا ينتمي إلى أية قومية ولا إلى أية ثقافة بعينها.
***
حقل التجربة الإنسانية غير محدود، وفي وسع الوعي الإنساني أن يتسامى حتى المطلق، أو بالأصح، أن يحقق جوهره المطلق وينعتق من القيود التي تكبِّله كلِّها. إن إمكان تحقيق خبرة الانعتاق هذه كامن في كل إنسان؛ لكن موهبة تحقيقها الكامل وإيصالها إلى الآخرين معطاة للقلة المباركة من بني البشر وحدها. ولقد كان كريشنامورتي من أصحاب هذه الموهبة في أجلى معانيها؛ وقد استطاع، بسبره العميق لطبيعة "الإشراطات" التي تحول دون الإنسان وتحقيق تجربة الانعتاق، أن يكشف لنا في عمق الكائن البشري عن ينبوع من المحبة والفطنة والإبداع لا ينضب. وتُعتبَر تعاليمُه اليوم واحةً حقيقية وسط صحراء المادية (بالمعنى الأخلاقي، وليس الفلسفي) المتفاقمة، من جهة، والمثالية العاجزة عن تحقيق ذاتها، من جهة أخرى، الأمر الذي يجعلها تستحق بحق تبوأ منزلة رفيعة في التراث الروحي والفلسفي للإنسانية قاطبة.
بعض أقواله
أعلى هيئة للذكاء الإنساني هي مراقبة النفس من دون أحكام.
عندما تدعى نفسك بأنك هندي أو مسلم أو مسيحي أو أوروبي أو أي شيء آخر , يعني أنك عنيف .. هل تفهم لماذا أنت عنيف ؟ لأنك ميزت نفسك عن بقية الجنس البشري .. عندما تميز نفسك حسب المعتقد , حسب الجنسية , حسب التقاليد , فإن ذلك يولد العنف .. الإنسان الذي يسعى لفهم العنف لا ينتمي إلى أي بلد , إلى أي دين , إلى أي حزب سياسي , أو نظام جزئي .. بل يعمل بمفهوم كلي للجنس البشري.
الحب ليس رد فعل .. لأنه إذا أنا أحببتك لأنك تحبني سيكون هذا مجرد تجارة أو شيء يتم شراءه من الدكان وهذا ليس حباً .. أن تحب يعني ألا تطلب شيئاً في المقابل ولا حتى أن تشعر بأنك تعطي شيئاً.
لماذا تريدون أن تكونوا طلاب الكتب بدلاً من أن تكونوا طلاب الحياة؟ اكتشفوا الحق والباطل في بيئتكم، بكل ما فيها من قهر ووحشية، تجدوا ما هو حقيقي.
إنه ليس مقياس سليم لصحتك أن تكون متأقلما بشكل جيد مع مجتمع مريض للغاية.
المصادر :
1 2 3
0 التعليقات:
إرسال تعليق